هل يكره أولادنا العلوم والرياضيات

 نشرت في جريدة الرأي الاردنية في   16/02/2016 11:16 م
.

لعله لا يخفى على ذي عقل ما تؤول اليه بشكل يومي حالة تعليم العلوم والرياضيات في بلادنا العربية من ضحالة وضعف في العملية التعليمية والمخرجات الناتجة عنها وبالتالي عملية التعلم برمتها. ولعل من نافلة القول على الأقل بالنسبة لجيلنا الذي كان «تلميذا» في فترة السبعينات وبداية الثمانينات، أن معلم الفيزياء أو الرياضيات على سبيل المثال كان دوما الملهم لإطلاق طائر الخيال والمولد لدوامة الفضول العلمي التي تعتبر لازمة لابد منها للتحليق في رحلة الاستكشاف أوللغوص وراء مزيد من كنوز العلم الدفينة.نرى اليوم بمزيد الأسى أن هذه الدوامة قد خمدت وسكنت وأن الطائر قد تم قتله في نفوس شباب المدارس، تلاميذ هذه الأيام، وقد أصبحت العلوم والرياضيات من المواد المتعارف والمتفق على كرهها من الكبير والصغير، ومن الآباء قبل أن نصل الأبناء. بل لقد اصبحت المجاهرة بكره الفيزياء مثلا شيئا يقابل بالاستحسان وكأن السامع يشجع المتكلم قائلا: أليس كذلك؟ وتترسخ الفكرة أكثر يوما بعد يوم، وتصبح اسطورة يؤمن بها الكبير قبل الصغير.وبعد، ماذا سنخسر إذا خسرنا العلوم والرياضيات؟غني عن القول أن التقدم الذي نشهده اليوم في كل مجالات الحياة مرده أولا إلى العلوم والرياضيات. وأن كل ما بين أيدينا من تكنولوجيا وترفيه وقوة وحضارة قد تأسس ولا يزال يعمل بالعلوم والرياضيات. وليس أسهل علينا كمواطنين في الدول النامية–إن كانت دولنا لا تزال تنمو–من شراء أحدث وسائل الترفيه والتكنولوجيا التي تعمل بالريموت دون أن نفقه شيئا عما تحتويه تلك الصناديق. وليس أسهل علينا أيضا من إلقاء هذه التكنولوجيا في سلة القمامة بمجرد تعطلها، والسعي إلى شراء غيرها.هنا نتساءل، كمستهلكين، استهلاكا أعمى للتكنولوجيا: أليس بمقدورنا أن نساهم ولو بجزء بسيط في إنتاج وتطوير هذه التكنولوجيا؟ أم أنها سحر لا يتقنه إلا عرافو الغرب والشرق دوننا نحن؟ أليس بالإمكان أن نرى شبابنا يبدعون ويتألقون في إنتاج وتطوير وابتكار التكنولوجيا المواكبة لما ينبت كل يوم في الأنحاء الأخرى من العالم؟ربما تكون مثل هذه الأسئلة تطرح كل يوم في جلسات التخطيط واتخاذ القرارات في أروقة الوزارات والدوائر العليا، لكن المؤكد ان الأمر يتوقف عند طرح السؤال ثم يتغير الموضوع. والدليل أننا لا نرى خططا ولا جهودا جادة توحي بوجود محاولات لإجابة هذه الاسئلة. فلا زالت مناهج العلوم والرياضيات تصاغ على طريقة ما «يجب أن يعرفه» الطلبة وما «يجب أن يدرسوه»، بغض النظر إن كان هذا المدروس «مرغوبا» لهم أم لا، ومستساغا لهم أم لا، فعليهم بأية وسيلة أن «يهضموا» هذا المدروس وأن يجتازوا فيه الامتحانات التي توضع أيضا على أساس «كم استطعت أن تختزن».تتعامل «مناهجنا» مع العلوم والرياضيات على طريقة الشراء بالكيلو. تخيل، يا رعاك الله، أبا يريد لأولاده دخول عالم التكنولوجيا، فيذهب إلى سوق الموبايلات فيشتري ثلاثة كيلوغرامات من قطع ولوحات الموبايل ثم يعطيها لأولاده ليتعلموا الدخول إلى عالم التكنولوجيا، والذين يسألونه بدورهم في حيرة: وماذا نستفيد من هذه الأشياء؟!!لقد كنت أحس بهذا الشعور لدى طلبة الثانوية العامة حين يسألونني: طيب ماذا نستفيد حين ندرس الرياضيات؟ أو السنة الأولى الجامعية مثلا، عندما يسألني أحدهم: بالله أنا تخصص طب، فلماذا أدرس الفيزياء؟! مجرد طرح أسئلة كهذه ينم عن أن المدرس يوزع عليهم قطع موبايلات تم شراؤها بالكيلو.يحتاج الدخول بأبنائنا إلى التكنولوجيا الى مقاربة مختلفة؛ فالاهتمام بالعلوم والرياضيات لدى الطفل يبدأ على شكل ولع وشوق وفضول نلاحظه في عمر مبكر قد يبدأ من سنتين، ونبدأ بتنميته وتشجيعه تدريجيا من خلال طرح وابتداع المزيد من المواقف الغريبة التي تتحدى رغبته بالاكتشاف ثم الاستكشاف، حتى اذا وصل إلى مرحلة من التشبع بهذا الشعور المتدفق داخله، ربما قبل سن العاشرة–وهذا يختلف من طفل لآخر–بدأنا نعرضه للمحات من أسس وبنية البحث العلمي، وأخذنا بيده في طريق التفكير العلمي القائم على الاستقصاء ومحاولة الكشف عن الحقائق. وفي سن لاحق ربما الصف السادس أو السابع، نبدأ باقتراح الطرق التجريبية للاستكشاف، وندخل في دائرة اهتمامه مقاربات في التحليل والنمذجة للظواهر العلمية المختلفة التي يكون قد خبرها جيدا من الناحية الوصفية الاستطلاعية، بل وتكونت لديه حولها تساؤلات كثيرة من خلال الملاحظات المختلفة التي مرت به على مدى فترات نموه السابقة. فيبدأ تصوير هذه الظواهر الخام لديه بالطريقة العلمية النظامية، «فيكتشف» مثلا من خلال دراسته أن الشحنات التي توجد على السجاد وتسبب له لمسة كهربائية تتكون من إلكترونات، تتجمع لتكون فرقا في الجهد يتم تفريغه عبر جسمه إلى الأرض عند لمس جسم معدني. ويكتشف أيضا أن المطر هو نهاية دورة كاملة من العمليات يدخل فيها التبخر وحركة الرياح والغيوم ومحفزات تكوين القطرات وتفريغ الشحنات بين الغيوم واختلاف الضغط الجوي إلى آخر هذه المنظومة المحكمة من العوامل التي تتفاعل فيما بينها قبل أن يرى نزول حبات المطر والبرد والثلج. هنا يبدأ الربط والتفسير، وهنا تبدأ «متعة الاكتشاف» تجتاحه، وينشأ لديه شعور بأنه أصبح أكثر «علما» وفهما للحياة والظواهر، ويقوى لديه شعور الثقة بنفسه، والذي يرغب بالاستزادة منه بأن يندفع نحو مزيد من الغوص والتعمق في هذا البحر الجديد الباهر بالنسبة له. وهنا أيضا نكون قد بدأنا تشغيل محرك الدافعية الذاتي لديه، ليصبح هو من يطلب المزيد، لا من يصرخ مستنجدا ضجرا مما يصب في رأسه من معلومات توزن عليه بالكيلو وعليه أن يؤديها في الامتحان بصرف النظر عن شعوره تجاهها.عندما «يطلب» الطالب العلم تجده بعد حين عالما، لكن عندما يفرض العلم على أبنائنا ولو سئلوا لرفضوه، فكيف سيكون منهم العالم والمهندس والطبيب الكفؤ بعد ذلك؟ إننا نخرج كل عام اﻵفا مؤلفة من المهندسين والأطباء والعلماء -خريجي كلية العلوم- لكن الأداء الحقيقي لهؤلاء الخريجين يظهر جليا في الميدان، عندما يصبح متوقعا مثلا من المهندس أن يكون مهندسا، لا قارئ تعليمات ومشرفا على تنفيذها. عندما يكون عليه تحمل المسؤولية واتخاذ القرار بناء على ما لديه من علم، القرار الذي يفترض أن يكون إسهامه الشخصي فيه كبيرا، لا أن ينسخ ما فعل غيره ويسير الأمور كما درجت العادة.لقد لاحظت بحكم انتقالي من قاعات المحاضرات في الجامعة إلى ساحات العمل في المواقع الصناعية المختلفة أن كثيرا من المهندسين يعملون بنقل خبرة مشرفيهم. فهو كمتدرب يتعلم في السنوات الثلاث الأولى من مشرفه أو مديره المباشر، ثم لا يخرج عن ذلك إلا ما ندر ليورثه إلى متدرب جديد. وهكذا لتتحول الهندسة التي هي أم الإبداع والابتكار إلى «كار» يرثه المهندسون كابرا عن كابر، كما يورث النجار أو الدهان صنعته إلى مساعده أو بكلمة أدق «صبيه». ولتصبح عندئذ الفئة الراغبة بالتطور والتي تقرأ وتتابع حضور المؤتمرات والتدريب فئة شاذة ينظر إليها الزملاء بعين الريبة. وبمثله حدث كذلك عن الطب والكيمياء والتعليم، وسائر التخصصات المرتكزة على العلوم والرياضيات، فكلها تسير على نهج مماثل.والخلاصة أن نظرة المؤلفين والمشرفين على وضع وصياغة المناهج والامتحانات في بلادنا بحاجة للخروج من الاطار التقليدي الذي عاشوا فيه عقودا طويلة، وأن يسألوا أنفسهم لأي جيل توضع أو تتطور هذه المناهج

الكاتب: د. محمد إبراهيم عوض الله



unriyo