رحلة في باطن المادة – الحلقة الثالثة

ومضيت إلى غرفتي، وأخذت ورقة وقلماً، وجلست إلى المكتب الموجود في ركن الغرفة وبدأت أجول بفكري في المجالات التي يمكنني أن انسج منها خطة لرحلتي إلى أعماق المادة. وبدأت أستعرض مع نفسي المواد التي يمكنني التفكير فيها كميدان لرحلتي:

– ماهي المادة التي يمكن أن أحصل من التجوال فيها على أفضل النتائج؟!
– لا شك أن علي البدء بمادة سهلة، ولكن ما وجه سهولتها؟
– لنستعرض أنواع المواد:
– الغاز لا يجدي لأن جزيئاته وذراته متباعدة جداً وليس لها بنية ثابتة لأنها دائمة الحركة.
– وكذلك السائل إلى حد ما، لأن الحركة الدائبة لذراته قد تؤدي بي إلى التيه دون التمكن من الاطلاع الجيد على مكوناته، والعمليات التي تجري فيه بشكل جيد.
– واذن فالمادة الصلبة هي أفضل الخيارات، فالمفروض أن بنيتها ثابتة تمكنني من التجوال عبرها دون أن تتحايل علي بحركتها المستمرة.
– وأظن أن أوضح مثال على ذلك هو إعطاء عنوان لشخص يسكن في قارب على سطح البحر مقارنة بعنوان شخص يسكن في شقة بشارع معين في مدينة معروفة.
– لا شك أن القارب لن يبقى في مكان واحد سوى لبرهة قصيرة من الزمن. وإذا عدت إليه فلن يكون في الغالب في نفس المكان ..
– وإذن فالمادة الصلبة هي الخيار الأفضل.
و لكن المواد الصلبة أنواع كثيرة، فمنها المركبات ومنها العناصر النقية وهذه وتلك تتواجد على أحد شكلين: بناء بلوري أو تجمد عشوائي. وأعتقد أن بناء و ترتيب الشكل البلوري سوف يسهل علي التعرف على البنية الداخلية للمادة فضلاً عن أن الخلية البلورية الواحدة تتكرر في كل البناء البلوري مما يعفيني من مشقة استطلاع التكتلات المختلفة المتنافرة للبناء العشوائي.
– هذا جيد، إذن فعلي اختيار مادة صلبة ذات بناء بلوري، ولكن ما هو البناء البلوري الأنسب للدراسة؟
– لاشك أن الشكل البلوري الأكثر تماثلاً والأبسط هو المكعب، لذا فمن المفيد التجول في بلورة مكعبة.

وألقيت نظرة على كتاب فيزياء الحالة الصلبة فوجدت من العسير الحصول على بلورة مكعبة لعنصر صلب إذ أن المنغنيز والفسفور فقط هما العصنران الصلبان ذوا التركيب البلوري المكعب، ولاأدري إن كان بمقدوري الحصول على بلورة من أي منها، وأذن فلننظر إلى المركبات. في الحقيقة يراودني شعور بأن بلورة كلوريد الصوديوم قد تكون الأنسب لرحلتي، فهي موجودة في متناول اليد لأنها ببساطة ملح الطعام. وليس هذا هو السبب فقط، فهي من المركبات البسيطة ولا تحوي سوى عنصرين، صحيح أنها لاتصنف كبلورة مكعب بسيط بل هي بلورة مكعب ممتليء الأوجه، وذلك لأن كلاً من الكلور والصوديوم يشكل مكعباً في كل وجه من وجوهه ذرة إضافة إلى ذرات الرؤوس فيكون لبلورة الصوديوم ثماني ذرات على رؤوس المكعب وست ذرات تتوسط أوجهه الستة. و كذلك الأمر للكلور.

 غير أن ما يهمني هو أن ذرات الصوديوم والكلور يقع كل منها على رأس مكعب يتشكل من أربع ذرات كلور وأربع ذرات صوديوم. كما يبين الشكل الذي أمامي في كتاب فيزياء الحالة الصلبة. وهكذا فسوف تشكل كل خلية بالنسبة لي غرفة مكعبة يقع على طرفي كل قطر من أقطارها الثلاثة ذرتين مختلفتين إحداهما كلور والأخرى صوديوم.

سررت لهذا التقدم الذي أحرزته في تقرير الخطوة الأولى لرحلتي. وإذن علي أن أفكر في كيفية البدء بالخطوات العملية للرحلة. حسناً أظن أن علي الدخول إلى البلورة بالتدريج، فإذا أمكن لجسمي أن يصغر تدريحياً وعلى مراحل فهذا سيجعلني في كل مرحلة أكثر قدرة على استطلاع الدقائق الداخلية في عمق المادة.

دعني أتخيل التتابع الآتي:
* يصغر حجمي في كل مرحلة إلى عُشر المرحلة السابقة، فطول خطوتي الآن هو حوالي المتر، وطولي 1,7 متراً.
* إذا بدأت المرحلة الأولى فيجب أن يصبح طول خطوتي 10سم وطولي 17سم. أما في المرحلة الثانية فطول خطوتي سيكون 1سم و طولي 1,7سم. وعلى هذا وإذا بدأت من خطوة طولها متر واحد فسوف أحتاج إلى 15 مرحلة لأصل بخطوتي إلى قطر نواة الذرة وهو 1 فيرمي = 10^ – 15 م، لأنه في مرحلة البداية يكون طول خطوتي هو 1× 10^ 0 = 1م.
* وفي المرحلة الأولى 1×10 ^-1م = 10 سم.
* وفي المرحلة الثانية 1×10 ^-2 = 1سم.
* … المرحلة الخامسة عشرة ا×10^-15= 1 فيرمي.
هذا جيد، ولأبدأ إذن بتفصيل مراحل البداية على الأقل للتخطيط لما أتوقع أن يحدث لي، وهذا يجعل لزاما علي الاجابة على بعض الأسئلة:
* أين أضع بلورة الملح؟ هل في صحن، أم على سطح الطاولة، أم على الأرض مباشرة؟ وإذا وضعتها في صحن فكيف سأدخل الصحن عندما يصبح طولي 1,7 سنتيمتراً؟
* أما على سطح الطاولة فهو الأنسب ولكن هذا يعني أن علي أن أقف ابتداء على سطح الطاولة وإلا فسوف يكون من العسير تسلق الكرسي إلى الطاوله وأنا بطول سنيتمرين.
* أما احتمال الأرض فسيكون جيداً إذا ضمنت أن لا تأتي نملة أو عنكبوت فتضرب البلورة برحلها فتتدحرج. أو أن يأتي قط فيدوسها فتنسحق وانا بداخلها..، ولكن مهلا! هل هذا واقعي؟ وهل سأتأثر لو انسحقت البلورة وأنا بداخلها.
* كلا كلا، الأسلم هو سطح الطاولة. لكن هذا يتطلب سطحاً مائلاً أضعه من الأرض إلى سطح الطاولة لأصعد إليه إذا ما انكمشت، دونما حاجة للتسلق .. و لأنزل عليه بعد عودتي الميمونة من هذه الرحلة الرائعة.

وأعدت التفكير في هذه الطريقة حيث لم ترق لي فكرة الصعود والتسلق وغيرها. وقررت أن أغلق أبواب ونوافذ الغرفة، وأن أضع طبقاً على الأرض أضع في وسطه بلورة الملح وعندما أبدأ في الانكماش على دفعات سيكون من السهل أن أبقى قريباً من البلورة. و لكن أليس من الافضل الآن أن أحصل على البلورة التي سأتجول في أرجائها؟ لكي يكون التخطيط على أرض الواقع. وإذا فلأحضر قليلا من الملح وأختار منه البلورة المناسبة.

الحلقة الثانية  |  الحلقة الرابعة

 د. محمد عوض الله



unriyo