تدريس العلوم في العالم العربيّ يحتاج إلى قفزة كبيرة وفورية

بواسطة  أ.د. نضال قسوم

ترجمة الأستاذة بسمة ذياب

تمّ في ديسمبر الماضي إعلان نتائج الامتحان الدولي في الرياضيات والعلوم (TIMSS) للعام 2011. هذا الامتحان، الذي يعني رمزه “توجهات (أو تطورات) دولية في دراسة الرياضيات والعلوم”، هو اختبار معياريّ موجّه لطلبة الصفين الرابع والثامن ويُجرى كلّ أربع سنوات. وقد شاركت في النسخة الأخيرة 50 دولة، منها 10 دول عربية. وقد جلبت النتائج بعض الأخبار الطيّبة والكثير من الأخبار السيئة للعالم العربيّ. الخبران الجيّدان هما أن طلبة قطر أظهروا تحسّنا كبيرا في أدائهم، رغم موقعهم الذي لا يزال في الجزء السفليّ من السلّم، و كان طلبة الإمارات العربية هم الأفضل بين أقرانهم العرب، رغم أن نتائجهم هي أيضا دون المعدّل العالميّ. أما الأخبار السيئة فكانت حصول الدول العربية على النتائج الدنيا في كلّ مسار تقريباً، بل إن أدنى عشرة نتائج في رياضيات الصف الرابع كانت للدول العربية.

وإن ما يدعو للقلق أكثر، عندما ننظر إلى نتائج المعدّلات على مرّ السنوات، خاصة عند مقارنة نتائج 2011 بنتائج 2007، ملاحظتنا لتقدم قليل في بعض الحالات، وفي المقابل نجد معظم الدول العربية لم تظهر أي تقدّم فعليّ. ونجد في الصدارة وكالمعتاد : سنغافورة، كوريا، تايوان، وفنلندا. وقد حافظ طلبة سنغافورة على الصدارة، وهو ما دعا الباحثين والمدرّسين في الولايات المتحدة للتعمّق في دراسة محتوى مناهج الرياضيات والعلوم وأساليب تدريسها في سنغافورة. وفعلا وجدوا بعض الأفكار المثيرة للاهتمام وهي قيد التنفيذ حالياً في عدد من مدارس الولايات المتحدة.

واحدة من أهمّ سمات النهج التعليميّ في سنغافورة هي الإصرار على تقليل كمّية الموادّ الدراسية التي يجب أن يغطّيها المعلمون في الرياضيات والعلوم. فعلى نقيض النهج المنتشر على نطاق واسع في منطقتنا العربية، فإن طلبة سنغافورة يدرسون مواضيع ومفاهيم قليلة، لكن يتم استكشافها بتوسّع وبطرق عديدة (تجريبياً، وبالتمثيل البياني، وحسابياً، إلخ) إلى أن يتم إتقانها جيداً، وحينها فقط ينتقل المعلم للمفاهيم المجرّدة التي تُبنى عليها النظريات العلمية.وهناك سمة رئيسية أخرى في تعليم الرياضيات والعلوم في سنغافورة وهي الاستخدام المكثّف للأساليب التمثيلية والرسمية، التي تعلّم التلاميذ كيفية وصف المسألة بالأشكال، ومن ثمّ معرفة طريقة ارتباط العوامل والمتغيرات ببعضها، وبالتالي مساعدتهم في اقتراح حلول. إنّ هذا الأسلوب يساعد في تنمية الإبداع، بدلاً من التطبيق الميكانيكي للطريقة المعتادة.

لقد عبّر المسؤولون في الولايات المتحدّة عن مخاوف جدّية من التأخّر المستمرّ للطلبة الأمريكيين بالنسبة لأقرانهم الآسيويين، إذ يمثّل هذا خطراً حقيقياً حيث يتوقّع أن تهيمن دولٌ آسيوية على الاختراعات في مجالات متنوعة قريباً. وإذا ما حدث هذا فإن الولايات المتحدة (ومعظم دول أوروبا) لن تفقد الوظائف الدنيا وحتى عالية المستوى فحسب، بل إن الشركات التي تُعنى بالابتكارات ستتم الهيمنة عليها من قبل دول شرق آسيا أيضاً. ونتيجة لذلك، قدّم المجلس الوطني الأمريكي للأبحاث (NRC) قبل بضعة أشهر خطة تفصيلية لتعليم العلوم عنوانها “معايير العلوم للجيل القادم” (NGSS) وهي ترمي إلى إحداث ثورة في طرق تعليم العلوم في الولايات المتحدة للقرن الحادي والعشرين.

أولاً، تؤكّد هذه الخطة أهمية أربع ركائز : الاتصال، والتعاون، والإبداع، والتفكير الناقد. وتؤكّد أيضا أن العلوم جهد جماعي، وذلك من خلال مناقشات تتم في الغرفة الصفية وتنفيذ التجارب العلمية في مجموعات والقيام بأعمال إبداعية من قبل فِرَق.
ثانياً: توكّد الخطة التكامل التامّ للثورة الرقمية مع العملية التعليمية، إذ أزالت شبكة الإنترنت وخدمة التواصل اللاسلكي (WiFi) الجدران من حول الغرفة الصفية فامتدّ مكان التعلّم إلى البيت وكلّ مكان يمكن أن تصله الموادّ التعليمية فيتمكن الطالب من التفاعل معها.

أسلوب علميّ
ثالثاً، هناك فكرة جديدة ومهمة تقدمها هذه المبادرة التعليمية في الولايات المتحدة وهي دمج الهندسة في تعليم العلوم. وتقترح خطة “معايير العلوم للجيل القادم” تنفيذ ذلك عن طريق تضمين “التصميم” بصفته عنصراً محورياً في تعليم العلوم: تصميم التجارب، تصميم النماذج، تصميم البرامج الحاسوبية، إلخ. أخيراً وليس آخراً، يقترح المجلس الوطني للأبحاث الاستعاضة عن فكرة “المهارات” التي يحتاج الطلبة تعلّمها بما يسميه “الممارسات العلمية”، أي أن نعلّم الطلبة بشكل مبكّر الكيفية الحقيقية التي يتم بها البحث العلميّ وليس “المنهج العلميّ” التبسيطيّ كما ندرّسه عادة. و تصرّ خطة “معايير العلوم للجيل القادم” على أن يكون تاريخ العلم جزءاً متكاملاً مع تعلّم العلوم، أي إظهار كيف قام العلماء من أمثال باستور ودالتون ولافوازييه وآينشتين وهابل باكتشافاتهم (ودعونا نضيف نحن علماء من أمثال ابن الهيثم الذي كانت أساليبه علمية حداثية).

يمكن لكلّ هذه الأفكار أن تكون ذات صلة بالعالم العربيّ ومفيدة لنا حيث الوضع محبط ليس من حيث نتائج الاختبار الدولي فحسب، بل أيضاً لانخفاض أعداد الطلبة في تخصص العلوم، الأمر الذي ينذر بمستقبل قاتم لمنطقتنا. لكن بالإضافة إلى التحسينات في المناهج المدرسية التي يحدّدها خبراء تعليم العلوم، فإن عالمنا العربيّ يحتاج لمعالجة مشاكل السياسة التعليمية والإدارة المدرسية. وتاليا نذكر بعضها :

– ثقل الأعباء التي يتحمّلها المعلمون، فالحصص الصفية كثيرة جدا والمهمّات عديدة، والرواتب أدنى من أن تجذب وتستبقي أفضل الناس وألمعهم إلى مهنة التعليم.

– ارتفاع نسبة أعداد الطلبة إلى أعداد المعلمين مما يحول دون تنفيذ الأساليب التطبيقية، والأعمال الجماعية، وتصميم المشاريع والأنشطة الإبداعية.
– نقص الموارد التعليمية في كثير من المدارس (معدّات المختبرات، وأجهزة الحاسوب، وتوفر الاتصال بشبكة الإنترنت)
– قلة الأنشطة العلمية الإثرائية خارج الغرف الصفية، مثل : الرحلات الميدانية، الأرصاد الفلكية، النقاشات مع العلماء، إلخ.
وربما الأهم من ذلك كلّه، ما يبدو أن نظامنا التعليمي غير قادر على الوصول إلى شرح طبيعة العلم كنهج عام لاستكشاف الطبيعة وفهمها، سواءً لأغراض عملية أو مفاهيمية.

ولمعالجة الوضع، أعتقد أننا نحتاج نحن المربين والمدرّسين لتأكيد ارتباط العلم بمجموعة من القضايا المجتمعية، مثل البيئة والاقتصاد، إلى غير ذلك. ونحتاج أيضاً لإعادة تدريب المعلمين ولا سيّما فيما يخصّ دمج المصادر الرقمية المتداولة حالياً ضمن العملية التعلّمية، وكذلك التخفيف من محتوى المناهج الدراسية كمياً وجعلها متعددة التخصصات بشكل أكبر.

كلّ هذا ينبغي أن نقوم به وعلى الفور، إذا أردنا أن لا نبقى في أسفل السلّم العالميّ.

http://blog.icoproject.org/?p=576



unriyo