جزيرة الاستقرار

تقديم: د.سائد دبابنة

هي ليست جزيرة في بحرٍ أو محيط، وليست محاطة بالمياه، بل هي مجموعة من النظائر لعناصر ما بعد اليورانيوم، بل فائقة الكتلة بالنسبة لليورانيوم، يُتوقع حسب نماذج الفيزياء النووية أن تكون أكثر استقراراً، من النواحي الإشعاعية، عما كان متوقعاً لهكذا أنوية ثقيلة، مقارنة بمحيطها من الأنوية ذات أعمار النصف القصيرة جداً. فحديثنا عن جزيرة نائية من الإستقرار النسبي في بحر النظائر الثقيلة النشطة إشعاعياً!

بالإضافة لمساهمة نموذج القطرة النووي في تفسير بعض الظواهر النووية، إلا أن فكرة جزيرة الإستقرار إنبثقت أساساً كامتداد لنموذج القشرة النووي، وهو نموذج يتفق مع ميكانيكا الكم ومبدأ الإستبعاد لباولي، كما يعتمد على تزاوج الحركة البرمية والدورانية لنيوكليونات النواة. نجح هذا النموذج بشكل لافت في تفسير الظواهر المؤشرة على وجود ما يسمى بالأعداد السحرية، والتي تعبر حقيقة عن امتلاء الأغلفة النووية، وهي مستويات طاقة تصاعدية مكممة، بالبروتونات أو النيوترونات، مما يزيد طاقة الربط النووية لكل نيوكليون، ويؤدي لاستقرار مطلق أو نسبي ملحوظ لتلك النواة.

تعتبر نواة الرصاص 208 النظير الأثقل المستقر والمتوفر في الطبيعة، والذي يتميز بوجود 82 بروتون و 126 نيوترون، وكلاهما من الأعداد السحرية، لذلك تسمى مثل هذه النواة ثنائية السحر! إن النظائر الأثقل من الرصاص نشطة إشعاعياً، وبدرجات متفاوتة، كونها تتجاوز الأغلفة الممتلئة، أي أنها تحوي أغلفة بمستويات طاقة أعلى، ممتلئة جزئياً. فهل بعد الرصاص من استقرار؟ هل من مزيد من الأعداد السحرية؟

على افتراض كروية الأنوية، تشير بعض نظريات الأغلفة إلى احتمال قوي لوجود أرقام سحرية أخرى، كالعدد 114 أو 184 وغيرها، والتي توحي بأن الأنوية فائقة الثقل التي تحوي 184 نيوتروناً، خاصة إذا رافقها عدد سحري من البروتونات كالعدد 114، قد تتميز باستقرار نسبي ملحوظ مقارنة بالأنوية الثقيلة الأخرى ذات التحلل السريع. من المتوقع كذلك أن تلك الأرقام السحرية قد تتغير عند انبعاج النواة وتشوهها عن التماثل الكروي، مما يوسع من توقعات مواقع جزيرة الإستقرار. لذلك يتجه البحث العلمي إلى محاولة تصنيع نظائر تلك الجزيرة الإفتراضية المستقرة نسبياً، ولو بكميات ضئيلة، لدراستها باستفاضة، ومقارنة النتائج التجريبية مع النماذج النظرية.

من الجدير التنويه أن محاولات تصنيع النظائر فائقة الثقل في هذه الجزيرة تجابه صعوبات تقنية وفيزيائية كبيرة. تعتمد طرائق التصنيع بطبيعة الحال على استخدام مسارعات أو مصادمات لتحقيق اندماج أنوية ثقيلة كنظائر البلوتونيوم مع أنوية أخف كنظائر الكالسيوم الغنية بالنيوترونات، والتي تكون نادرة في الغالب من ناحية، وعملية الإندماج بحد ذاتها قد لا تكون بالضرورة مضمونة النتائج من ناحية أخرى.

كنت نوهت، في مقالتي السابقة عن المرجل النووي النجمي، إلى أن ما يحويه عالمنا من مادة، مستقرةً كانت أم مشعة بأعمار نصف طويلة، هي نتاج ما كان حدث من عمليات نووية في نجوم قديمة اندثرت. أما مادة جزيرة الإستقرار فلا تنتج حسب ما نعلم في النجوم، فالإنسان هو الذي يسعى لتصنيعها. إن هذا المسعى إن نجح بالرسو على الجزيرة، وقد نجح بالفعل ببلوغ أطراف شواطئها، سيوفر للفيزيائيين النوويين وللكيميائيين النوويين فرصاً عظيمة لدراسة خصائص تلك النظائر فيزيائياً، وتلك العناصر كيميائياً، وربما فتحت تلك الجزيرة الآفاق للإبحار في تطبيقات جديدة للعلوم. فمتى سيأتي كولمبس النووي، أو السندباد، الذي سيبحر بنا من وادي الإستقرار الأزلي إلى تلك الجزيرة من المادة الصناعية الغامضة؟



unriyo